يبدو الإقليم ساحة مفتوحة لحرب استنزاف تتبدل فيها خطوط النار بلا نهاية قريبة تلوح في الأفق
منى عبد الفتاح – اندبندنت عربية
السيناريو الأكثر ترجيحاً، يتمثل في تفكك تدريجي في نسيج كردفان الأهلي، يتحول معه الإقليم إلى مسرح لصراع متعدد الأطراف، تغذيه التحالفات القبلية المتبدلة، والنزوح الكثيف، والفراغات الأمنية الناتجة من تراجع هيبة الدولة.
تتجه الأنظار وسط التمدد المستمر لنطاق الحرب، التي تعصف بالسودان منذ أبريل (نيسان) 2023، نحو إقليم كردفان، لا بوصفه إحدى ساحات القتال فحسب، بل كمنطقة قد تكون لها الكلمة الفصل في مسار الصراع. فالتصعيد العسكري الذي تشهده بعض مناطق الإقليم الذي يتوسط البلاد جغرافياً ويتماس تاريخياً واجتماعياً مع الأطراف المتنازعة في الأيام الأخيرة، لم يعد ينظر إليه كحلقة في سلسلة الحرب المتنقلة من مكان إلى آخر، بل بات يحمل دلالات أعمق تتعلق بتوازن القوى وإمكانات الحسم أو التجميد، وربما إعادة تشكيل خريطة النزاع. وما تشهده كردفان من تبادل الهجمات المسلحة التي طاولت مدناً وبلدات رئيسة، وما ترافق معه من ادعاءات متبادلة بالسيطرة والانتصار، في وقت يتدهور فيه الوضع الإنساني والاقتصادي، ينذر باتساع نطاق الاشتباكات على نحو يثير القلق من انزلاق الإقليم إلى مصير يشبه دارفور.
لكن إقليم كردفان، بخلاف دارفور، يحتفظ بخصائص تجعله ذا أثر مضاعف في مستقبل الحرب والسلم في السودان. فهو يشكل نقطة التقاء بين المركز والهامش، ويعد بمثابة الجسر بين شمال البلاد وجنوبها، وبين الشرق والغرب، مما يمنحه ثقلاً استراتيجياً يتجاوز حجمه السكاني أو التنوع القبلي والإثني الذي يجعل من الإقليم مرآة لتركيبة الدولة السودانية ذاتها. كما أن قربه من مناطق الإنتاج الحيوي واحتضانه لتشابكات قبلية ونضالية سابقة وتداخل النفوذ السياسي والعسكري فيه، يعززان من أهميته كبيئة حساسة قد تسرع بانعطاف كبير في مجرى الحرب.
أمام هذا الواقع، يطرح المشهد في كردفان نقاط نقاش جوهرية تتجاوز ما يحدث على الأرض من اشتباكات وتقدم أو تقهقر، حول إمكان أن يقود التصعيد العسكري في الإقليم إلى نقطة تحول قد تفضي إلى إضعاف أحد طرفي النزاع بصورة تفرض واقعاً جديداً، أو تنضم كردفان إلى مناطق “اللاحرب واللاسلم”، بما يعنيه ذلك من اتساع دائرة الانهيار، وزيادة تعقيد الحلول السياسية، وعدم الحسم العسكري، وحول إمكان لعب القوى المحلية والمجتمعية دوراً كابحاً أو وسيطاً، أو أن يكون ضحية لهذه الحرب التي لا يملك مفاتيح نهايتها أحد.
ممرات السيطرة
عكست التحولات العسكرية الدراماتيكية خلال الأسابيع الماضية، اشتداد الصراع على ممرات السيطرة والتموضع الاستراتيجي بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع”. ففي مدينة الأبيض، عاصمة الإقليم والمركز الحيوي لولاية شمال كردفان، أدى قصف عنيف إلى سقوط عشرات الضحايا، بينما يعيش آلاف النازحين في ظروف إنسانية متدهورة داخل مراكز إيواء تفتقر إلى أدنى مقومات الأمان. وعلى خط مواز، واصلت “الدعم السريع” توسيع نطاق هجماتها، فارضة حصاراً خانقاً على مدينة بارا، وعمدت إلى عزلها عبر السيطرة على طرق الإمداد وتقييد الاتصالات باعتقال عشرات المدنيين وتدمير واسع. وألقت هذه التحركات بظلالها على الوضع الاقتصادي الهش للمدينة، التي تعتمد على التحويلات الخارجية والأسواق المحلية، لتدخل في أزمة خانقة.
في المقابل، شنت القوات المسلحة هجمات جوية مركزة على مواقع “الدعم السريع”، في محاولة لاستعادة السيطرة على الأرض. ومع تصاعد التوترات، شهدت مدن النهود والخوي والدبيبات تبدلاً متكرراً في السيطرة. فقد أعلنت “الدعم السريع” سيطرتها على هذه المدن، ووصفت الأمر بأنه نقطة تحول في ميزان المواجهة، قبل أن يعود الجيش ليؤكد استعادة بعضها ويعلن تكبيد “الدعم السريع” خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، مدعوماً بقوة مشتركة من الحركات المسلحة، إلا أن السيطرة على الأرض بقيت متقلبة، إذ سرعان ما عاودت “الدعم السريع” التقدم، معلنة مرة أخرى سيطرتها على منطقتي الدبيبات والخوي، مترافقة مع هجمات على منشآت حيوية في كوستي، أبرز شرايين إمداد الجيش نحو دارفور. وقد ترافقت هذه المعارك مع اتهامات متبادلة بارتكاب مجازر وانتهاكات جسيمة، وسط عجز تام عن التحقق المستقل من الوقائع في ظل انعدام التغطية الميدانية.
أصبح النزوح الجماعي السمة الطاغية، إذ وثقت المنظمات الدولية فرار آلاف الأسر من الخوي والنهود، وتوزعهم بين ولايات كردفان. وبينما تتسابق أطراف الصراع للسيطرة على المناطق الجغرافية، تبدو كردفان ساحة مفتوحة لحرب استنزاف تتبدل فيها خطوط النار بلا نهاية قريبة تلوح في الأفق.
شريان اقتصادي
تعد منطقة كردفان، بشقيها الشمالي والغربي، من أغنى أقاليم السودان بالموارد الاقتصادية الطبيعية والأنشطة التجارية الحيوية، مما يجعلها مركزاً للصراع المحموم بين الجيش و”الدعم السريع”. فالصراع الدائر ليس محض نزاع عسكري على الأرض فحسب، بل هو في جوهره صراع على الموارد والسيطرة على مفاتيح الاقتصاد في بلد تتهاوى مؤسساته بفعل الحرب.
تمثل مدينة الأبيض نقطة ارتكاز في شبكة التجارة الحيوية للماشية، حيث تتقاطع القوافل القادمة من مختلف ولايات كردفان عابرة شمالاً إلى مصر، أو شرقاً عبر البحر الأحمر نحو موانئ السودان التي تعد بوابة لتصدير الماشية إلى السعودية ودول الخليج. هذه الحركة التجارية، المتجذرة منذ قرون، تمثل شرياناً اقتصادياً أساسياً لكثير من المجتمعات المحلية والجهات الفاعلة، وهو ما يجعل السيطرة على كردفان مكسباً اقتصادياً، يفوق قيمته الرمزية أو الجغرافية.
في هذا السياق، تبرز تجارة الصمغ العربي بوصفها مورداً استراتيجياً آخر. فأشجار الهشاب المنتشرة في المساحات الشاسعة خارج مدينة الأبيض توفر الصمغ الذي يعد من أهم صادرات السودان، على رغم أن الدولة لا تمارس عليه سيطرة مباشرة بسبب الطبيعة التقليدية للإنتاج بواسطة المجتمعات الريفية. ومع ذلك، فإن موقع الأبيض كمركز لبورصة الصمغ العربي، وكمقر لعدد من المؤسسات الاقتصادية، يمنحها أهمية استثنائية. قيمة الصمغ العربي الاقتصادية كسلعة استراتيجية على المدى البعيد تدفع أطراف النزاع للتفكير في توظيفه كمصدر لتمويل الحرب، خصوصاً إذا طال أمد النزاع، والسيطرة عليه تمكن أحد طرفي النزاع من التأثير المباشر في تسعير وتوزيع هذه السلعة الحيوية.
وفي الجنوب الغربي، تضاف معركة السيطرة على مدينة الفولة، عاصمة غرب كردفان، إلى خريطة الحرب الاقتصادية، نظراً إلى احتوائها على أحد أهم حقول النفط في السودان. كما أن التهديد الذي تفرضه قوات “الدعم السريع” على مصفاة الأبيض، وهي منشأة حيوية في شمال كردفان، يكشف عن نية إعادة تشكيل خريطة السيطرة على أصول الطاقة والبنية التحتية النفطية.
توازن متأرجح
في قلب الجغرافيا السودانية، تتربع كردفان كمنصة محورية تملي إحداثيات الحرب والسلام. وبمساحتها الشاسعة التي تربط الغرب بالوسط والشمال، وتموضعها بين دارفور وجنوب السودان، لا تعد كردفان مجرد إقليم إداري، بل رقعة استراتيجية ذات أثر حاسم في مستقبل الدولة السودانية الممزقة.
تمتد كردفان عبر ثلاث ولايات، شمال وجنوب وغرب كردفان، وتتشكل من طيف متنوع من التضاريس، من السهول الرعوية شمالاً، إلى المرتفعات الوعرة جنوباً، حيث تترسخ مواقع “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال”، بقيادة عبدالعزيز الحلو في كاودا، العاصمة المعلنة لما يسمى بـ”المناطق المحررة”. هذه الجغرافيا الصلبة كثيراً ما شكلت مأوى للقوى المسلحة، بما في ذلك الجيش والحركات، والآن قوات “الدعم السريع” التي اقتحمت مدينة الفولة عاصمة غرب كردفان، لتكسر بذلك حاجز التوزع الجغرافي وتفرض وجوداً فعلياً على الأرض.
تتجاوز التقاطعات العسكرية في كردفان السيطرة على المدن، فطرق الإمداد التي تخترق الأبيض والنهود وأبو زبد تمثل الشرايين اللوجستية التي تربط الخرطوم بالغرب، وتجعل من كردفان محوراً مهماً لأي تموضع استراتيجي. كما يعد الإقليم نقطة ارتكاز رمزية في خطاب الهوية الوطنية، والسيطرة عليه تمنح الأطراف المتحاربة قدرة على ادعاء تمثيل “السودان العميق”، في الامتداد القبلي والثقافي المتشابك بين قبائل المسيرية والبقارة والنوبة وغيرها. هذه التعددية، وإن كانت مصدراً للثقل السياسي، فإنها أيضاً هشاشة محتملة قد تفجر صراعات إثنية ما لم تدر بحكمة.
أما على مستوى توازن القوى، فإن المشهد في كردفان لا يقوم على حياد الحركة الشعبية كما يبدو ظاهرياً، بل يتوزع ولاؤها بين جناحين متعارضين، فالحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو تميل ميدانياً وسياسياً إلى التنسيق مع قوات “الدعم السريع”، فيما ترتبط الحركة جناح مالك عقار من مضاربها في الأنقسنا على تخوم الإقليم، بتحالف معلن مع الجيش السوداني، بذلك تتمدد الحركة الشعبية على مسرح عسكري أكبر من حدود الإقليم. هذا التوازن المتأرجح لا ينبئ فقط باستمرار الحرب، بل يفتح الباب أمام احتمالات توسعها إلى صراع إقليمي إذا ما استغلت التناقضات الداخلية من أطراف خارجية، خصوصاً عبر الحدود المفتوحة مع جنوب السودان.
سيناريوهات محتملة
من هذا المشهد المركب، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات: الأول، ذو الطابع العسكري التقليدي، يفترض أن الجيش السوداني أو “الدعم السريع” سيحسم المعركة في كردفان عبر تحركات مباشرة وتكتيك هجومي منظم، لكن طبيعة الأرض المفتوحة في شمال كردفان، وتحصينات الجيش في الأبيض، وتماسك بعض المكونات القبلية، تجعل من هذا الحسم مكلفاً وغير مرجح في المدى المنظور.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على حال توازن ميداني هش، إذ تتقاسم القوى الثلاث: الجيش، و”الدعم السريع”، والحركة الشعبية، مناطق النفوذ في كردفان، ضمن خطوط تماس غير مستقرة. في هذا التصور، يصبح الإقليم بمثابة منطقة “تجميد صراع”، تستخدم في رهانات سياسية أو ترتيبات ما بعد الحرب.
السيناريو الثالث، وهو الأكثر ترجيحاً، يتمثل في تفكك تدريجي في نسيج كردفان الأهلي، يتحول معه الإقليم إلى مسرح لصراع متعدد الأطراف، تغذيه التحالفات القبلية المتبدلة، والنزوح الكثيف، والفراغات الأمنية الناتجة من تراجع هيبة الدولة. دخول “الدعم السريع” إلى الفولة وبابنوسة، وسط احتجاج اجتماعي متصاعد، يكشف عن ديناميكيات داخلية قابلة للانفجار. ومع وجود نازحين من بابنوسة داخل الفولة التي سقطت بيد “الدعم السريع”، تتضاعف احتمالات الانفلات الأهلي، خصوصاً إذا اندفعت بعض القبائل نحو التسلح الذاتي أو انخرطت في تحالفات ظرفية مع أحد طرفي الحرب. في هذا السيناريو، يدخل إقليم كردفان مرحلة يتراجع خلالها منطق الدولة، وتظهر مناطق نفوذ لا مركزية، فيما تبرز احتمالات تدخل إقليمي عبر بوابة جنوب السودان. وهنا لا تحسم الحرب عسكرياً بقدر ما تستهلك في صراع أهلي مفتوح، ينسف الخرائط القديمة ويعيد تعريف مركز الثقل في السودان.
للاطلاع على المزيد من التفاصيل، يرجى زيارة الموقع الرسمي بالضغط على الرابط التالي: هنا.